" أن يموت كالاشجار
واقفاً وألا يسقط القلم من يده"
من المغرب نعود إلى المحروسة لنرتحل
مع عالم ومؤرخ وباحث ومعلم أجيال هو رؤوف عباس من خلال سيرته الذاتية
"مشيناها خطى". كان أكثر ما أثار انتباهي وإعاجابي اسلوبه البسيط وشديد
التواضع في الكتابة وفي ذات الوقت اعتزازه الشديد بالنفس واحترامه العميق للعلم
والعقل والاستقلال الفكري حيث عاش مرفوع الرأس طوال مشوار حياته الذي كان ملئ
"بالتعاريج والانحناءات أكثر مما فيه من الاستقامة والوضوح" على حد
تعبيره، خاصة في ظل الصعوبات الكبيرة التي واجهها في مقتبل حياته ثم التحديات التي
اعترضت مسيرته العلمية.
ورؤوف عباس نموذج للمصري البسيط
القادم من أصول فقيرة ومتواضعة "شأنه شأن السواد الأعظم من المصريين" نجح
بالإصرار والمثابرة في تجاوز ظروفه الخانقة
والوصول إلى أعلى المراتب العلمية، وقد ولد عام 1939 "في أحد مساكن
عمال السكة الحديد ببورسيعد" حيث كان والده يشتغل عاملا بالسكة الحديد، وعاش طفولته وصباه "بعزبة هرميس" بحي شبرا والتي يصفها "بمصر الصغرى" حيث "عاش سكانها مسلمين وأقباط معا رغم فقرهم وكأنهم أسرة واحدة.
وكاد أكثر من مرة لا يستكمل تعليمه
الإعدادي والثانوي بسبب ضيق امكانيات والده واسرته، ولكن الإصرار والصدفة في بعض
الأحيان ساعدت في استكمال مسيرته التعليمية، اما المرحلة الجامعية فيعود الفضل لثورة
يوليو في أن يستكملها دون عناء حيث "فتحت باب التعليم الجامعي
أما فئات اجتماعية لم تكن تحلم في عهد الملكية بالوقوف أمام باب الجامعة فضلا عن
الالتحاق بها". كما أن سياسة تعيين الخريجين أتاحت له فرصة التوظف بعد التخرج
وانقاذه من البطالة.
ومع
حياته العملية بدأت تحديات ومعارك من نوع آخر امتدت على مدار أكثر من 40 عاما، فمعارك
ضد الفساد والرشوة ومحاولة سرقة عرق العمال في وظيفته الأولى، ثم معارك للحصول على
حقه في التعيين معيدا في الجامعة بعد حصوله على الدكتوراة عام 1971، ثم تدخل الأمن
في الحياة الجامعية وفي التعيين والفصل، وفي نظام الإعارات وتحديد مصير شئون
الطلاب.
كما يرصد رؤوف عباس التدهور في وضع التعليم الجامعي، فبعد أن رسم لنا خلال
فترة دراسته الأولى صورة للاساتذة العلماء الأجلاء والطلاب الذين يبحثون ولا
يحفظون وينجحون من خلال الأبحاث والمقالات والمكتبات وامتحانات حقيقية، يرسم لنا
صورة أخرى لعهد "الاساتذة الموظفين" والانشغال بإعداد رسائل الماجستير والدكتوراة
لطلابهم من الأثرياء العرب، ونهب الصناديق الخاصة واستخدام أموال الجامعة في الإنفاق
على المحظوظين من الأساتذة.
ومن
الملامح المؤسفة التي يسجلها رؤوف عباس هو التمييز الديني الذي يمارس من قبل بعض
قيادات الدولة أو داخل الجامعة ففي عهدي السادات ومبارك تم رفض ترشيحاته لاساتذة
وعلماء تاريخ أجلاء فقط بسبب ديانتهم ولأنهم
"""أهل ذمة" على حد تعبير أحد المسئولين. وقد تمسك رؤوف عباس باختياراته رافضا مبدأ
الاعتراض على أساتذة اكفاء وطنيين مصريين بدون سبب سوى ديانتهم، بل كتب مقال في
صحافة المعارضة حول هذا الأمر بعد رفض جريدة الأهرام نشره.
وهناك
العديد من الملامح والتحديات والإنجازات الأخرى التي حققها رؤوف عباس يسجلها في
سيرته مثل رئاسته واحيائه للجمعية المصرية
التاريخية، ولكن أكثر ما يبرز فيها هو تمسكه العنيد بمواقفه المبدئيه وعدم التنازل
عن إعلاء قيمة العلم والحق والعدل، وقد نجح بالفعل في اجتياز تعاريج وانحناءات
الحياة بفضل "ما حباه الله من خصائص
جمعت بين العناد والإصرار والصبر، فاقت في حجمها أحاسيس الإحباط والعجز وخيبة
الأمل" على حد تعبيره.
وقد رحل د. رؤوف عباس عن عالمنا في
عام 2008 بعد أن حقق امنيته في "أن يظل قادرا على التفكير والابداع
حتى يجود بالنفس الأخير".
No comments:
Post a Comment