كانت أولى رحالتي مع الدكتور عصمت سيف
الدولة، وهو رجل قادم من أعماق الصعيد، مناضل وطني كان ضمن كتائب الفدائيين الذين
قاتلوا الإنجليز في القناة عام 1951 كما أصبح محاميا في معظم القضايا السياسية
والوطنية مدافعا عن حق جميع القوى السياسية في التعبير عن نفسها، وحقها في تنظيم
صفوفها وحمل رسالتها، ودخل المعتقلات في السبعينات والثمانيناب بسبب مواقفه
السياسية والوطنية. وعندما طلب محبيه
ومريديه أن يكتب مذكراته وروايته ليقدمها للأجيال الجديدة، فضل أن يكتب عن
قريته...قرية "الهمامية" الواقعة بمركز البداري في محافظة أسيوط.
ولكن ماذا يمكن أن نجده في قصة قرية
صغيرة فقيرة واقعة في أحضان جبال الصعيد لا تختلف كثيرا عن أي قرية أخرى في ربوع مصر؟
في الواقع هناك الكثير الذي قد يثير الاهتمام والدهشة أو يضيف إلى فهمنا لماضينا
وحاضرنا، فأينما وجدت التجربة الإنسانية وجدت التفاصيل التي يمكن للعين الفاحصة أن
تستشرف منها الدروس والحكم كما فعل بجدارة د. عصمت سيف الدولة. بل يرى البعض أن "مذكرات قرية" الصادرة
عام 1995 و الجزء الثاني "مشايخ جبل البداري" الصادرة عام 1996 قد تكون
من أهم ما كتب عن الصعيد وأنه عمل غير مسبوق يقارب أو يتجاوز كتابات وأبحاث
الأنثروبولوجيين حيث ترسم لنا لوحات معبرة عن العادات والأمثال والحكايات والفنون
والألعاب.
يسرد لنا د. عصمت سيف الدولة رحلة هذه
القرية منذ تاريخها العتيق مرورا بـ"فرح قداح" مؤسس القرية وجد أبنائها ،
ثم العلاقة القلقة مع السلطة الخديوية وسلطة الاحتلال الإنجليزي وحتى ثورة 1919، ويستعرض
خلالها ملامح وخصائص القرية من لهجة وعبارات يتميز بها أهلها، وطقوس الزواج
والعزاء ومواسم الزراعة والحصاد ومحاصيلها وأدواتها، وصراع أهلها مع الطبيعة والفيضان
والجفاف ورمال الجبل، ثم بيوتها وساكنيها وأكلهم
وشربهم وعلاقاتهم الاجتماعية والعائلية...إلى أخره من تفاصيل ترسم لنا صورة غنية
وبديعة عن واحدة من قرى مصر.
ولكن هناك ملامح وتفاصيل جذبت انتباهي
بشكل خاص لما لها من دلالات وما تحمله من قيم وما تكشفه من خصائص ميزت حياتنا
كمصريين عموما وما تركته من آثار في نفوس
وحياة الأجيال المتعاقبة...
فما هي وكيف ذلك؟
No comments:
Post a Comment