Tuesday, August 14, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(7) حدائق الملك 1




"لقد جئت إلى هذه الدنيا مرفوعة الرأس وسأموت مرفوعة الرأس"



يمكن أن يكون غلاف كتاب "حدائق الملك" مخادعا للوهلة الأولى، فإلى جانب العنوان الذي يوحي بسياق مرتبط بالطبيعة والجمال واتساع الأفق، توجد صورة لأمرأة جميلة يكسو ملامحها الجذابة ابتسامة هادئة رقيقة، هي صورة الكاتبة وصاحبة السيرة فاطمة أوفقير. فمن هي وما هي قصتها مع "حدائق الملك"؟

هي زوجة الجنرال محمد اوفقير، رجل المغرب القوي والرجل الثاني بعد الملك الحسن والذي كان قد دعم والده محمد الخامس في الحصول على استقلال البلاد عام 1956 من فرنسا ثم تولى منصب وزير الداخلية في عهد الحسن الثاني بعد أن كان مدير أمن ومخاربات وساهم في قمع المعارضة وبسط يد  الدولة والملك على البلاد .

ورغم حياة الرفاهية والرغد والثراء التي عاشتها فاطمة أفقير، و هي إمرأة قوية الشخصية، محبة للحياة ومتعها، ورغم قربها من الأسرة المالكة ومن مراكز السلطة والنفوذ وصنع القرار، انقلبت حياتها رأسا على عقب عندما تورط زوجها في محاولة إنقلاب فاشلة  ضد الملك الحسن عام 1972 ، قتل في أعقابها الجنرال أوفقير.  

ولكن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد، بل أصبحت فاطمة وأولادها الستة والذي كان أصغرهم عبد اللطيف يبلغ من العمر ثلاث سنوات وأكبرهم مليكة في التاسعة عشرمن العمر نزلاء في حدائق الملك....وهو الأسم الذي يطلق على المعتقلات والسجون السياسية في المغرب.

من الصعب قراءة تجربة الاعتقال التي دامت 19 عاما من 1972 حتى 1991 والسقوط المروع من قمة المجتمع المغربي إلى  غياهب النسيان تحت الأرض في الزنزانات  السوادء المفقرة دون غذاء كاف أو رعاية طبية أو فرص لتعليم الصغار، تجربة راح ضحيتها ستة من الأطفال والأبناء لا ذنب لهم فيما اقترف الآباء، ولكنه شكل أخر من أشكال العقاب الجماعي الذي يقترفه المستبد أو صاحب السلطة أو المتعصب دينيا أو عنصريا والذي يدفع ثمنه الأبرياء من أعضاء أسرة أو أبناء قرية  أو أفراد طائفة دينية أو حتى أبناء بلد بأكمله.

ولكن أكثر ما جذبني في هذه المذكرات هو القدرة الإنسانية ، حتى بين الصغار، على البقاء والحياة والصمود أمام  أصعب ظروف الحرمان والقهر وايجاد سبل لعدم "السقوط في الانحطاط المعنوي والعقلي" كما تعبر عن ذلك فاطمة افقير.... فكيف كان ذلك؟؟


Monday, August 13, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(6) مذكرات قرية: المرأة 5



"الزوجة تعرف وزوجها يعرف أنها إن غضبت فسيشقى...
ستظل كل أسئلته في بيته بدون أجوبة"



 يرسم عصمت سيف الدولة صورة خاصة جدا عن المرأة الصعيدية حيث يضعها في مكانة رفيعة داخل أسرتها وبيتها: " فكل ما تملكه الأسرة من مال او ماشية أو حبوب أو دواجن أوجبن أو دهان أو خبز أو بيض، فهي خازنته وهي حارسته وهي المانحة منه ما تريد لمن تشاء، بل هي وحدها التي تعرف على وجه التحديد ما هو وكم هو وأين هو من البيت.  فهي لها في بيتها فضلان، فضل الإدارة وفضل التمويل، ولزوجها فضل العمل، فلا ينكر عليها أحد بعد هذا أنها ملكة البيت وما فيه...إنها لا تخدم أحدا، ولا زوجها وإنما تدير مملكتها في بيتها وتعد فيه كل الأجوبة الروحية والعاطفية والمادية على أسئلة الرجل الزوج والأولاد من بنين وبنات".

أما الحب والزواج والعاطفة فلها خصوصية في قرية الهمامية يعبر عنها  د.عصمت سيف الدولة قائلا:

"الزوجة في القرية لا ’تحب’ ولا ’تعشق’ زوجها، تلك وأمثالها أوصاف أدنى بكثير من تلك العلاقة بين الزوجين، أدنى وصف إلى حقيقتها أنها وحدة مصير...لا بل وحدة وجود. فهما لا يلتقيان منفردين إلا نادرا، وإن تحادثا فلا يهزران، ولا يتلامسان غزلا، ولا يتغزلان حديثا، ولا يعرفان عادة القبل على الشفاء، ولا يتعانقان إذا تقابلا بعد غياب، لا يفقدان في كل الظروف الوقار والتوقير والحياء، ولا تنادي المرأة زوجها باسمه ولا يناديها باسمها إلا إذا كانا منفردين، وإن تجادلا فصيغة النداء تدل على مدى الاتفاق والاختلاف والتودد، إن قالت له ,’يا خوي’ فهي متفقة، وإن نادته ’يا ولد عمي’ فهي تتودد...وإن قالت ’يا ولد الناس’ فهي غاضبة".

ولكن هذا لا يعني أن المرأة في القرية لا تعرف الحب "بالعكس إنها تعرفه عاطفة متأججة منذ أن بلغت مبلغ النساء، كل ما في الأمر إنها أحبت حتى الوله، وعشقت بكل كيانها الزوج بصفته وليس شخصا بعينه".

هناك الكثير من الحكايات والملامح والتفاصيل الأخرى تحتويها "مذكرات قرية"، ولكن لكل بداية نهاية وليس أفضل من المرأة والحب خاتمة  لهذا العرض الموجز....فقد حان الوقت لكي نرتحل إلى مكان وزمان أخر...فإلى أين؟؟


Sunday, August 12, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(5) مذكرات قرية: العاب الحياة 4


                

                              "لا أحد يكف عن اللعب، ولا أحد يشكو، 
                                  ولا أحد يبكي ولو تحطمت عظامه"



اللعب ليس فقط مدخل لأدخال البهجة والسرور والمرح على الاطفال ولكنه أيضا يمنحهم فرصة الاختلاط بغيرهم من الأطفال واكتساب المهارات الاجتماعية، وفي قرية مثل  "الهمامية" يصبح اللعب أداة هامة لإعداد الأطفال للحياة التي سيواجهونها.  ومن أهم اللعب التي يلعبها الأولاد لعبة "دارت" ولعبة "العضمة". وكل منهما تنطوى على مخاطر الموت أو الجرح الجسيم وكلها تبيح العنف بدون حدود.

فلماذا تزج القرية بأبنائها لمثل هذه الألعاب والمخاطر؟؟

يعقب على ذلك د. عصمت سيف الدولة قائلا:

" قسوة الحياة في القرية خلقت أرقى فضائلها: احتمال القسوة لتستمر الحياة. غيبة الأمل في مغالبة الحياة، خلقت فضيلة الكف عن الشكوى لمن لا أمل فيه. هكذا ما فتئت القرية تدرب أولادها وهم صغار يلهون على ما سيحتاجون إليه حين يكبرون ويعملون.  تقدم للهوهم ألعابا قاسية لتحصنهم ضد قسوة الحياة الجادة، كما يلقح الجسم بالميكروب ليتحصن ضد الاصابة بمرضه. وعلى مدى الحياة الطويلة وأجيالهم المتعاقبة يتعلم كل مجتمع ما هو في حاجة إليه. كما تعلم المجتمع منذ الغارة أن الشجاعة رأس الفضائل كما تكون بالاقتحام الايجابي وهزيمة القاهرين عنوة، تكون بهزيمة القهر ولو سلبيا بتحمل آلامه وعدم الشكوى منه ولو كانت الحياة ذاتها هي ثمن الصمود".

وعلى جانب أخر، هناك العاب تعلم المساواة مثل لعبة "السيجة" التي يلعبها أهل القرية كغيرهم من فلاحي مصر بقطع من طوب أو حجر على رقعة من تراب وهم جلوس على الأرض، ويحرص أهل القرية على تدريب أولادهم عليها منذ الصغر. ويقدم د. عصمت سيف الدولة مقارنة بديعة بين لعبة "السيجة" ولعبة "الشطرنج" لها دلالات تربوية واجتماعية  فيقول:

"فالسيجة لعبة ديمقراطية في حين أن الشطرنج لعبة ارستقراطية، ففي السيجة تتساوى كل القطع  إذ كلها أحجار أو طوب، أما في الشطرنج، فثمة الملك والوزير والفارس والطابية والفيل ثم أخيرا الجند الذين يرصونهم أمام الارستقارطيين وفرسانهم وطوابيهم وأفيالهم ليتلقوا عنهم مخاطر القتال المبكر. كذلك في الشطرنج كل القوى مسخرة لحماية الملك ولا يهزم لاعب إلا إذا مات الملك حتى لو كان فقد كل جنده أو خيله وطوابيه، أما في السيجة فكل القطع يساند بعضها بعضا وتتعرض كل قطعة للمخاطر ذاتها التي تتعرض لها القطع الأخرى، وتحل كل قطعة محل أية قطعة أخرى في إداء وظيفتها، ومن يمت يفتدي من يعيش، ثم لا ينهزم إلا من يفقد "أغلبية" قواته وحكم الأغلبية قائم على اساس المساواة بين البشر".

ولكن إذا كانت المساواة  قيمة أساسية من قيم القرية، فماذا عن المرأة ووضعها ومكاتنها في هذا المجتمع الصعيدي التقليدي المحافظ ؟  

Saturday, August 11, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(4) مذكرات قرية: "الغارة" 3




"ذهبت بهجتهم وقلت أموالهم وظهرت عليهم الكآبة والفاقة منذ الغارة"



اللحظة الفارقة في تاريخ هذه القرية هي لحظة تمرد بعض أبنائها  وصدامهم مع "السلطة"، كان ذلك في القرن التاسع عشر، وقد نالت القرية وأهلها عقابا جماعيا قاسيا حيث أبيدت ودكت دكا وأصبحت ترابا يوم "الغارة" التي قادها الأمير شاهين باشا، وتم رفع المتمردين من أهل القرية على الخوازيق وعلى رأسهم قادة المقاتلين من أبنائها الذين دافعوا بشجاعة عنها، وتفرقت نسائهم وذرياتهم في البلاد وسلبت أملاكهم ونهبت أموالهم لتضاف إلى ثراء الناهبين من رجال السلطة والاقطاع والباشاوات، إلى أن "أدركتهم المراحم الخديوية بشرط "كفالة" استقرارهم على الخضوع، فعفا عمن بقى منهم" وسمح لهم بالعودة إلى بلدهم.

وقد ظلت ذكرى مهانة هذه "الغارة" قابعة في نفوس أهل القرية لعقود طويلة بعد حدوثها، غرزت في أعماقهم "القهر" .  ويرسم د. عصمت سيف الدولة صورة مؤلمة لعواقب هذا  الإحساس عندما يتغلب على روح الإنسان حيث أنه الذي جعل "شباب القرية يجرون كالبهائم مربوطين في ذيل حصان يمتطيه عسكري ولا يقاومون، ويرتضون أن يقفوا تأدبا إذا مر عليهم حصان الحكومة لا يمتطيه عسكري". فقد دخل القهر "في نسيج حياتهم فأصبح كل منهم أنسانا مقهورا...لا يشعر بالقهر إلا إذا نبه إليه تنبيها قويا...ولقد كانت الحكومة أقوى المنبهات إلى تناقض قيمة المساواة بين أهل القرية ومقام المقهورين فألغو من حياتهم فعليا وعقليا ونفسيا وسلوكا آية قرابة بينهم وبين الحكومة، لا قرابة عداء  ولا قرابة ولاء ولاقرابة انتماء، ولا قرابة رجاء".

وبهذا الشكل "أستقامت حياتهم على وثيق المساواة فيما بينهم وعوضوا حاجتهم الدفينة إلى العزة بأن أضافوا إلى أبطالهم الشعبيين القدامي من بني هلال، أبطالا معاصريين هم أولئك الأولاد "الجدعان" الذين يتحدون الحكومة وتطاردهم السلطة فلا تصل إليهم في مخابئهم الأسطورية، أولئك الذين تغني لهم فتيات القرية، ويرسل إليهم الرجال الأموال القليلة خفية، ويحلم كل ناشئ بالانضمام إليهم...انهم نماذج الانسان الذي يفتقده في ذاته كل انسان في القرية فينتمي إليه تعويضا عما اتنقصه القهر من انسانيته".

وقد سجل أبناء القرية قصة "الغارة" في حكايتهم وفي أغانيهم التي تدعو إلى الثأر واستعادة الكرامة، وربما تحقق جانب من هذا الثأر عندما نجح أحد أبنائها وهو "الشيخ عباس" الرجل  الأزهري المتعلم والمثقف في قيادة مقاومة ذكية استخدم فيها الأدوات القانونية والإجراءات الإدارية إلى جانب توعية وتحفيز أهل القرية مما نجح في حماية شبابها من اصطيادهم وترحيلهم لخدمة المجهود الحربي البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى‘ ثم في أسترداد أرض "الجزيرة" التي سلبت من القرية أثناء الغارة ومن ثم استعادة جانب من كرامتهم ومواردهم وثروتهم.

ولكن كيف يتم تنشئة أبناء القرية وإعدادهم لحياة تختلط فيها قيم المساواة مع قسوة وخشونة القهر، سواء قهر السلطة أو قهر الفقر؟ 

Friday, August 10, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...3 مذكرات قرية: المساواة 2


"مفيش حد أحسن من حد"


من الملامح التي جذبت انتباهي في حياة قرية الهمامية هي قيمة المساواة  والتي تعد قيمة أصيلة من قيم أبنائها كما يشير د. عصمت سيف الدولة: "فهناك مساواة تفرضها الوحدة في النسب والوحدة في الفقر والوحدة في الموطن، فقد نشأ أبناء القرية منذ قديم الزمان أن لا أحد في القرية أفضل من أحد من أسرته ولا أسرة أفضل من أي بيت، ولا بيت أفضل من بيت في عائلة، ولا عائلة أفضل من عائلة في القرية، بصرف النظر عن العدد والثروة".

وهناك قيمة أخرى وثيقة الصلة  بقيمة المساواة، هي قيمة "الستر" التي يحرص عليها أبناء القرية، فتنشئ كل عائلة منضرة مزوقة لاستقبال واكرام أضياف الفقراء من الأسرة سترا لفقرهم، كما يكلفون في أفراحهم نفقة الفرح لصاحبه سترا لعجزه عن نفقاته ويسمونها نقوطا، ويتكفلون في الجنائز والمآتم لعجز أهل المتوفي عن نفقاتها".

ولكن رغم قيمة المساواة هذه التي تعزز من قيم الرحمة والتراحم والتضامن، هناك حالة أخرى تنتاب أبناء القرية مثلما تنتاب العديد من القرى المصرية الأخرى أيضا، حالة وثيقة الصلة بتاريخ العلاقة مع "السلطة" وأصحاب الثروة والنفوذ. 

 فما هي؟

Thursday, August 9, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...2 مذكرات قرية 1


كانت أولى رحالتي مع الدكتور عصمت سيف الدولة، وهو رجل قادم من أعماق الصعيد، مناضل وطني كان ضمن كتائب الفدائيين الذين قاتلوا الإنجليز في القناة عام 1951 كما أصبح محاميا في معظم القضايا السياسية والوطنية مدافعا عن حق جميع القوى السياسية في التعبير عن نفسها، وحقها في تنظيم صفوفها وحمل رسالتها، ودخل المعتقلات في السبعينات والثمانيناب بسبب مواقفه السياسية والوطنية.  وعندما طلب محبيه ومريديه أن يكتب مذكراته وروايته ليقدمها للأجيال الجديدة، فضل أن يكتب عن قريته...قرية "الهمامية" الواقعة بمركز البداري في محافظة أسيوط.  

ولكن ماذا يمكن أن نجده في قصة قرية صغيرة فقيرة واقعة في أحضان جبال الصعيد لا تختلف كثيرا عن أي قرية أخرى في ربوع مصر؟ في الواقع هناك الكثير الذي قد يثير الاهتمام والدهشة أو يضيف إلى فهمنا لماضينا وحاضرنا، فأينما وجدت التجربة الإنسانية وجدت التفاصيل التي يمكن للعين الفاحصة أن تستشرف منها الدروس والحكم كما فعل بجدارة د. عصمت سيف الدولة.  بل يرى البعض أن "مذكرات قرية" الصادرة عام 1995 و الجزء الثاني "مشايخ جبل البداري" الصادرة عام 1996 قد تكون من أهم ما كتب عن الصعيد وأنه عمل غير مسبوق يقارب أو يتجاوز كتابات وأبحاث الأنثروبولوجيين حيث ترسم لنا لوحات معبرة عن العادات والأمثال والحكايات والفنون والألعاب.

يسرد لنا د. عصمت سيف الدولة رحلة هذه القرية منذ تاريخها العتيق مرورا بـ"فرح قداح" مؤسس القرية وجد أبنائها ، ثم العلاقة القلقة مع السلطة الخديوية وسلطة الاحتلال الإنجليزي وحتى ثورة 1919، ويستعرض خلالها ملامح وخصائص القرية من لهجة وعبارات يتميز بها أهلها، وطقوس الزواج والعزاء ومواسم الزراعة والحصاد ومحاصيلها وأدواتها، وصراع أهلها مع الطبيعة والفيضان والجفاف ورمال الجبل،  ثم بيوتها وساكنيها وأكلهم وشربهم وعلاقاتهم الاجتماعية والعائلية...إلى أخره من تفاصيل ترسم لنا صورة غنية وبديعة عن واحدة من قرى مصر.

ولكن هناك ملامح وتفاصيل جذبت انتباهي بشكل خاص لما لها من دلالات وما تحمله من قيم وما تكشفه من خصائص ميزت حياتنا كمصريين عموما وما تركته من آثار في  نفوس وحياة الأجيال المتعاقبة...

فما هي وكيف ذلك؟


Wednesday, August 8, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...1


لا أعرف لماذا منذ اندلاع الثورة في مصر وفي غيرها من البلدان العربية لم أستطع قراءة الأدب رغم عشقي له وشغفي به، وعلى مدار العام والنصف الماضيين لم أنجح في القراءة الجادة لأي عمل أدبي حتى تلك الأعمال التي تناولت الثورة، بل أجدني بعد ثلاث أو أربع صفحات القي بالرواية جانبا بعد أن ينتابني شعور بالحيرة والضجر. 

ولكن أكثر ما جذبني وشدني في الآونة الأخيرة هو قراءة المذكرات والسير الذاتية. وربما يعود ذلك إلى الرغبة الشديدة في البحث عن إجابات لأسئلة كثيرة فجرتها الأحداث المتلاحقة، أو ربما هي محاولة في الاطلالة على التجارب الإنسانية المتنوعة  بكل ما تحتويه من حيوات وقصص لأناس وبشر عاشوا الحياة بجمالها وقبحها، بانتصاراتها واخفاقاتها، وقدموا لنا تجاربهم وحياتهم عبرة نتعلم منها ونماذج نقتضي بها ودروس نداوي بها حيرتنا بل وتجارب نستشرف من خلالها ملامح المستقبل.

هكذا وجدتني اترك القاهرة بصخبها وانفلاتها وصراعاتها السياسية واتجه نحو شاطئ البحر ومعي حقيبة مليئة بالكتب حيث بدأت رحلة صيفية بديعة مع حيوات وعوالم أخرى، أبحرت بي في الزمان والمكان، واخذتني إلى شواطئ دافئة حيث هدوء واستقرار النفس، ثم إلى بحور أوسع وأعمق زادت من تساؤلاتي وحيرتي...

فمن أين بدأت...وإلى أين أبحرت؟...لذلك حديث أخر...