Friday, January 25, 2013

من مذكرات ثورة مصرية: فلا خوف في الميدان



الأول من فبراير 2011

تعبر سيارة التاكسي البيضاء ميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة متجهة نحو طريق صلاح سالم. المحلات مغلقة والشوارع تكاد تخلو من المارة والسيارات.

"الناس خايفة تنزل...اصل النهاردة حيخلصوا عليهم "، هكذا قال السائق.

أصمت وأتذكر حواري صباح اليوم مع جارنا لدى خروجي من المنزل وهو يقول:
 "حيضربوهم بيد من حديد...هيولعوا الميدان...كفاية كدة...الموضوع لازم يخلص".

اشعر بقدر من التوجس والخوف مع اقتراب التاكسي  من كوبري 6 أكتوبر. اليوم الثلاثاء الأول من فبراير، أول مليونية يعلنها الثائرون في أنحاء البلاد والمعتصمون في ميدان التحرير، وأول يوم أنزل فيه إلى "الثورة"...إلى "الميدان"...ذلك الفضاء مترامي الأطراف الذي اعتدنا نحن أهل القاهرة أن نعبره مئات بل آلاف المرات سواء لقضاء أمر من الأمور في مجمع التحرير أو للتسوق في وسط البلد أو للعبور من غرب القاهرة إلى شرقها والعكس أو غيرها من الأغراض. 

قلبي يخفق والتاكسي يطير فوق كوبر 6 أكتوبر ويقترب من الميدان. الأفكار والشكوك الهواجس تتزاحم داخل رأسي:

"يا ترى حنحصل المليون ولا الناس حتخاف تنزل....يا ترى الجيش حيضرب علينا زي ما بيقولو ولا حيسبونا زي ما وعدوا...يا ترى...يا ترى....يا ترى....."

يصل التاكسي إلى منزل كوبري 6 اكتوبر المؤدي إلى ميدان عبد المنعم رياض. أفاجأ بطابور طويل من السيارات الواقفة فوق الكوبري وبعدد كبير من الرجال والنساء بل والأطفال تنزل مترجلة من فوق الكوبري باتجاه الميدان.  يزداد قلبي أطمائناناُ وثقة...وأشعر بالدفء وأنا أتأمل ملامح الإقدام والحماسة على الوجوه المتجهة صوب الميدان.

أول ما يقابلني لدى خروجي من التاكسي تلك الرائحة النفاذة...الرائحة المتخلفة عن الحرائق. أرى عن بعد الواجهة السوداء لمبني الحزب الوطني بعد أن التهمته النيران. أعبر أول حاجز للجيش وأرى عربات الأمن المركزي المحروقة والمدمرة والمح عبارة مكتوبة على إحداها:"دي نهاية الظلم"...اشعر بالذهول...هل هذه القاهرة؟؟ هل ثارت مصر أخيراً؟؟ هل انتفض شعبها حقا؟؟ لم تحرق سوى رموز النظام من مكاتب ومقرات الحزب و رموز القمع وانتهاك حقوق الانسان المتمثلة في أقسام الشرطة وعربات الأمن المركزي...حريق اقرب لطقوس التطهر والميلاد من جديد.

أقف في الطابور أمام حاجز ثاني، الجميع يقفون في هدوء وانتظام دون تبرم أو شكوى في أنتظار دورهم للتفتيش من قبل جنود القوات المسلحة وعناصر اللجان الشعبية. المح عبارة مكتوبة على أحد الجدارن اسفل كبري 6 اكتوبر: "لا لقانون الأسرة لا لقوانين سوزان" ، تقلقني هذه العبارة، أدرك أن هناك صراع يلوم في الأفق بين قوى تسعي نحو التحرر والتقدم والمساواة وقوى أخرى شديدة المحافظة  تسعى نحو الجمود والتمييز والإقصاء...ولكن حتى الآن الجميع يد واحدة.

تطئ قدماي أرض الميدان لأجد نفسي وسط بحر من البشر، هل أنا في حلم أم في علم؟؟  تعود ذاكرتي إلى عام 2003 إبان العدوان الأمريكي على العراق حينما اتنفض المصريين ليحتل ما بين 20 إلى 30 ألف منهم ميدان التحرير لأول مرة منذ مظاهرات الطلبة في السبعينات من القرن العشرين، هي لحظة شهدت فيها بنفسي انسحاب أفراد وضباط الشرطة من الميدان والذعر في عيونهم إزاء هذه الجموع الغفيرة وهتافاتهم الغاضبة، فلم تزد أي مظاهرة حتى ذلك الحين عن ثلاثة ألاف متظاهر في أحسن الأحوال ولم تزد بعد ذلك  أيضا  عن هذا العدد عقب ربيع القاهرة القصير عام 2003.

أما الآن، فتكاد الدموع تذرف من عيناي وأنا أشاهد هذا التجمع المليوني، تجمع احتفالي أقرب إلى الكرنفال. أري مصر بأكملها في الميدان، بشرائحها وطبقاتها وديانتها  وتيارتها السياسية المختلفة، برجالها ونسائها بل وأطفالها وشيوخها أيضا. 

أشق طريقي بصعوبة باتجاه كبري قصر النيل حيث سالتقي رفاق الميدان. أعبر تجمعات المتظاهرين العديدة التي ترفع الشعارات المبتكرة والمذهلة...من أين جاء كل هذا الابداع؟؟ تثلج هتافاتهم صدري وتتدافع المشاعر بداخلي وأنا أرى الآلاف من أعلام بلادي ترفرف في سماء القاهرة. استغرب نقاء الهواء وخلوه من رائحة عوادم السيارت والأتربة والقمامة التي اعتدنا عليها في القاهرة...هواء نقي طاهر ينعش النفس والروح.

أصل إلى مدخل كبري قصر النيل حيث التقي برفاق الميدان، افاجأ بزميلة سابقة في العمل لم أراها منذ 20 عاما جاءت مع بناتها للإنضمام للمليونية، أري كاتب ومفكر كبير السن جاء مع زوجته يتساندان على بعضهما البعض ليكونا مع الثائرين، سيدة ستينية أنيقة تقف بشعرها الفضي القصير وتقول "أنا جيت بس عشان أكمل المليون"، فتاة منقبة أرى حماسها عبر نقابها تهتف بعزم "لازم يرحل".  نقف معا والفرحة والأمل تملئ عيوننا، ننظر صوب السماء ببعض التوجس للطائرة الهليكوبتر العسكرية التي تحوم فوق الميدان ولكن نستعيد الطمأنينة عند سماع هدير التحدي من حناجر المحتشدين...لا خوف في الميدان. تأتينا مكالمات عبر الموبيلات تحذرنا أن هناك أنباء أكيدة أن "الميدان حينضرب في أي لحظة ولازم تمشوا"، ننظر إلى بعضنا البعض في قلق ثم ننظر حولنا لنري العزيمة والإصرار في عيون الثائرين.. نستعيد ثقتنا ونبقى ثابتين...فلا خوف في الميدان.

مع اقتراب موعد حظر التجوال نخرج من التحرير باتجاه كبري قصر النيل لنفاجأ بآلاف القادمين الجدد للإنضمام للمليونية والمعتصمين في تحد صارخ للحظر. نسير عبر الكبري مستظلين بشمس فبراير الدافئة، متذكرين أنه منذ أيام قليلة فقط شهد هذا الكبري مواجهات دامية بين الشرطة والمتظاهرين وسقوط شهداء ومصابين من المتظاهرين المتوجهين إلى ميدان التحرير. نقف لحظات بجوار اسدي قصر النيل من ناحية الزمالك لنلقي نظرة أخيرة على المشهد/الحلم للجموع المتجهة نحو الميدان وفي الخلفية تقف الواجهة المحترقة لمقر الحزب الوطني، اشبه ببقايا ديناصور...تلك الكائنات كبيرة الحجم صغيرة العقل التي انقرضت لهذا السبب.

نسير بخفة تحملنا آمالنا وأحلامنا...منتعشين بنسمات شتوية رقيقة تأتينا عبر النيل ممزوجة بروائح الميدان...روائح التطهر والنقاء والجسارة.

الثاني عشر من فبراير 2011

يوم ما بعد التنحي...ادخل ميدان التحرير من ناحية شارع محمد محمود بجوار الجامعة الأمريكية،. أفاجأ بغابة من المقشات وأدوات التنظيف يحملها الآلاف من الشباب وبعمليات كنس للشوارع ودهان للأرصفة ومسح وغسيل للجدران والأسوار جارية على قدم وساق، فاليوم لتنظيف الميدان عقب أول إنجاز حققته الثورة برحيل الرئيس المخلوع. رائحة الفنيك والمطهرات تملئ هواء الميدان، عملية تنظيف وغسيل فعلية ولكنها شديدة الرمزية...التطهر بالماء عقب التطهر بالنار، كنس وغسل القديم الفاسد لاستقبال الجديد الطاهر.

اجواء البهجة والانتصار تملئ المكان وهتافات "ارفع رأسك أنت مصري" تعلو من كل ركن من أركان الميدان.  أراقب أفواج القادمين...شباب يرتدون تي شرتات مكتوب عليها "أنا مصري"، أري علامات الفخر والعزة والثقة على وجوه الناس، ملامح غابت عن وجوه المصريين لعقود طويلة، فالصورة النمطية للمصري السلبي الخانع الذي تنتهك كرامته ولا يثور أبدا تحطمت تماما في هذا المكان وفي ميادين مماثلة في طول مصر وعرضها...لقد استعاد المصري كرامته ووطنه.

 أري رجل ستيني يدخل الميدان ثم يلتقط ورقة من الأرض ويسرع بالقائها في كيس قمامة يحمله رجل آخر، أري أم تدخل الميدان مع أبناءها الصغار وهي تحذرهم بحزم وشدة "أوعى واحد فيكم يرمي ورقة في الأرض"... كلمات لم أكن أتصور أن أسمعها في قاهرة المعز وفي قلب ميدان التحرير. أصبح لهذاالمكان في تلك اللحظة مهابة وجلالة بل مسحة من القداسة...فضاء طاهر لا يجوز انتهاكه بأي شكل من الأشكال، فكفاح ونضالات وتضحيات الشعوب هي التي تضفي القيمة والمعنى على الأمكنة.

أطوف الميدان وأشاهد عمليات فك الخيام في منطقة الصنية أو "الكعكة الحجرية" بلغة جيل السبعينات الذين احتلوا نفس هذا الميدان منذ 38 عاما مضت. تحتدم النقاشات وتختلف الآراء، فرغم الفرح ونشوة الانتصار هناك مخاوف وتوجسات: "المطالب ما تحققتش كلها...لازم نكمل"، "مش عاوزين حكم عسكري"، "ندي المجلس فرصة وبعدين نشوف نعمل ايه"، "الناس تعبت وعاوزة الاستقرار والآمان".

أترك الميدان وأسير مع الرفاق عبر كبري قصر النيل، تثيرنا مشاهد فرحة القادمين بأعلامهم وهتافاتهم وأغانيهم، نسير مبتهجين نقضم قطع البطاطا الساخنة، ولكنها بهجة يشوبها القلق والترقب، فماذا بعد؟  نزيح الهموم جانبا فاليوم يوم احتفال وفرحة، تنعشنا نسمات شتوية رقيقة  تأتينا عبر النيل ممزوجة بروائح الميدان...روائح التطهر والأمل والحلم بمصر جديدة.