Friday, August 17, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(10) Desert Encounter




“For when man ardently seeks Thy beauty
His soul will joyously go to its death from the midst of richest life”
 Inb Al-Farid  

          

I had never heard of Knud Holmboe nor of his travel memoires “Desert Encounter” until a friend posted a link to the memoires on Facebook.  I was first drawn by the image on its front page of a young handsome foreign man in Arab dress. Moreover, being a lover of history and travel I was further drawn by the fact that it was not only a travel memoire of “An Adventurous  Journey through North Africa”, but that its events had occurred in 1930.  But what most aroused my curiosity was what seemed to have been a very brief life of the author Knud Holombe, for under his handsome picture was the date (1902-1931) and under it the phrase: “A Martyr of Freedom of Expression”.  So who was he and what was this journey all about??

Knud Holmboe was a Danish journalist and travel writer. Son of a Danish businessman, it appears that his smug materialist middle-class life in Denmark was not compatible with his more adventurous, rebellious and reflective nature. His career in journalism quenched his thirst for travel to remote areas, taking him to Morocco, where he witnessed and wrote about the brutal French colonial war against the people of Morocco, as well as to Iraq, Turkey, Persia and the Balkans.

These travels however were paralleled with a passion for religions and philosophy and an inner quest on issues of faith and identity. At the age of twenty he embraced Catholicism and lived for a while in a monastery in France. However, still restless and searching, his travels to Morocco brought him in close contact with the Muslim population and with their faith, finally leading him to convert to Islam, a faith he believed to be “the true Christianity” and whose people “practiced in their daily life so closely to what the prophet Jesus taught”.

“Desert Encounter” is a gripping account of the journey Knud began in 1930 in his Chevrolet Model 1929 from Morocco in the west across the vast Sahara desert with a plan to reach Egypt. Reading it, one senses Knud’s deep interest in knowing and coming close to the people of these nations: “This was going to be my last day as a European…and my first day with the people I so much wanted to know and whom one can only get to know by living among them”.

His courage is evident in travelling through difficult and unknown terrain, never turning back even when his car broke down more than once, almost lost, and close to dying of thirst. But his courage and humanism are more evident in his account of the atrocities committed by colonial powers in North Africa, and primarily of the shocking treatment of the Libyan population by the Italian Fascist occupation. “In Europe one is told that the peaceful Italians in Cyrenaica have been attacked by the blood-thirsty Arabs. Only I, who have seen it, know who the barbarians are”.

Knud developed a strong sympathy and respect of the Libyan people and their struggle, describing their poor illiterate fighters as “the truest noblemen I have ever met”. However, this sympathy brought on him the wrath of the Italian occupation who finally arrested and deported him before he could complete his journey to Egypt.

When “Desert Encounter” was published in 1931 it became an instant bestseller in Denmark, in many European countries and in the USA, but it was banned in Italy and not translated into the Italian language until 2004.  In the same year Knud was killed at the age of 29 while travelling in Aqaba on his way to Mecca and it was speculated that the Italian intelligence was involved, but this was never verified.

One is often pained when a life is cut so short, especially a life so intense and promising as Knud’s life seemed to be. The only consolation is that his story is still alive 80 years after his death and his humanistic message is still reaching many across the world:

“Deep down within themselves the peoples of the East and the West are alike.  They are two branches of the same tree. And when man, regardless of whence he comes, seeks deep in his heart, he will feel the longing for the root of the tree”.





Thursday, August 16, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(9) مشيناها خطى



" أن يموت كالاشجار واقفاً وألا يسقط القلم من يده"

من المغرب نعود إلى المحروسة لنرتحل مع عالم ومؤرخ وباحث ومعلم أجيال هو رؤوف عباس من خلال سيرته الذاتية "مشيناها خطى". كان أكثر ما أثار انتباهي وإعاجابي اسلوبه البسيط وشديد التواضع في الكتابة وفي ذات الوقت اعتزازه الشديد بالنفس واحترامه العميق للعلم والعقل والاستقلال الفكري حيث عاش مرفوع الرأس طوال مشوار حياته الذي كان ملئ "بالتعاريج والانحناءات أكثر مما فيه من الاستقامة والوضوح" على حد تعبيره، خاصة في ظل الصعوبات الكبيرة التي واجهها في مقتبل حياته ثم التحديات التي اعترضت مسيرته العلمية.

ورؤوف عباس نموذج للمصري البسيط القادم من أصول فقيرة ومتواضعة "شأنه شأن السواد الأعظم من المصريين" نجح بالإصرار والمثابرة في تجاوز ظروفه الخانقة  والوصول إلى أعلى المراتب العلمية، وقد ولد عام 1939 "في أحد مساكن عمال السكة الحديد ببورسيعد" حيث كان والده يشتغل عاملا بالسكة الحديد، وعاش  طفولته وصباه "بعزبة هرميس" بحي شبرا والتي يصفها "بمصر الصغرى" حيث "عاش سكانها مسلمين وأقباط معا رغم فقرهم وكأنهم أسرة واحدة.

وكاد أكثر من مرة لا يستكمل تعليمه الإعدادي والثانوي بسبب ضيق امكانيات والده واسرته، ولكن الإصرار والصدفة في بعض الأحيان ساعدت في استكمال مسيرته التعليمية، اما المرحلة الجامعية فيعود الفضل لثورة يوليو في  أن يستكملها  دون عناء حيث "فتحت باب التعليم الجامعي أما فئات اجتماعية لم تكن تحلم في عهد الملكية بالوقوف أمام باب الجامعة فضلا عن الالتحاق بها". كما أن سياسة تعيين الخريجين أتاحت له فرصة التوظف بعد التخرج وانقاذه من البطالة.

ومع حياته العملية بدأت تحديات ومعارك من نوع آخر امتدت على مدار أكثر من 40 عاما، فمعارك ضد الفساد والرشوة ومحاولة سرقة عرق العمال في وظيفته الأولى، ثم معارك للحصول على حقه في التعيين معيدا في الجامعة بعد حصوله على الدكتوراة عام 1971، ثم تدخل الأمن في الحياة الجامعية وفي التعيين والفصل، وفي نظام الإعارات وتحديد مصير شئون الطلاب.

كما يرصد رؤوف عباس التدهور في وضع التعليم الجامعي، فبعد أن رسم لنا خلال فترة دراسته الأولى صورة للاساتذة العلماء الأجلاء والطلاب الذين يبحثون ولا يحفظون وينجحون من خلال الأبحاث والمقالات والمكتبات وامتحانات حقيقية، يرسم لنا صورة أخرى لعهد "الاساتذة الموظفين"  والانشغال بإعداد رسائل الماجستير والدكتوراة لطلابهم من الأثرياء العرب، ونهب الصناديق الخاصة واستخدام أموال الجامعة في الإنفاق على المحظوظين من الأساتذة.

ومن الملامح المؤسفة التي يسجلها رؤوف عباس هو التمييز الديني الذي يمارس من قبل بعض قيادات الدولة أو داخل الجامعة ففي عهدي السادات ومبارك تم رفض ترشيحاته لاساتذة وعلماء تاريخ أجلاء فقط بسبب ديانتهم  ولأنهم """أهل ذمة" على حد تعبير أحد المسئولين.  وقد تمسك رؤوف عباس باختياراته رافضا مبدأ الاعتراض على أساتذة اكفاء وطنيين مصريين بدون سبب سوى ديانتهم، بل كتب مقال في صحافة المعارضة حول هذا الأمر بعد رفض جريدة الأهرام نشره.

وهناك العديد من الملامح والتحديات والإنجازات الأخرى  التي حققها رؤوف عباس يسجلها في سيرته مثل رئاسته واحيائه  للجمعية المصرية التاريخية، ولكن أكثر ما يبرز فيها هو تمسكه العنيد بمواقفه المبدئيه وعدم التنازل عن إعلاء قيمة العلم والحق والعدل، وقد نجح بالفعل في اجتياز تعاريج وانحناءات الحياة بفضل "ما حباه  الله من خصائص جمعت بين العناد والإصرار والصبر، فاقت في حجمها أحاسيس الإحباط والعجز وخيبة الأمل" على حد تعبيره.

وقد رحل د. رؤوف عباس عن عالمنا في عام 2008 بعد أن حقق امنيته في "أن يظل قادرا على التفكير والابداع حتى يجود بالنفس الأخير".



Wednesday, August 15, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(8) حدائق الملك 2



"إني اقاوم القدر"


تقول فاطمة اوفقير:

"اعتقد أن المرء حينما تلم به فاجعة ويمر في لحظات عصيبة يكتشف في نفسه جسارة غير متوقعة.  ففي سبيل خلاصنا، نستخدم طاقات ووسائل لا تخطر على بال، ونعثر على أفكار مدهشة. قد يتصور أي كان، وهو يراقب وضعنا من الخارج، أننا كنا نفضل الموت على العيش في ظل تلك الظروف الرهيبة، ولكن على العكس من ذلك، تشبثنا بالحياة، ووجدنا ألف حيلة للتغلب على السجن والعزلة".

 واحدة من هذه الحيل كانت الخيال  والحكي،  فعلى مدار ثماني سنوات تم فصل أفراد الأسرة عن بعضهم البعض في زنزانات منفصلة، استطاع ابنها رؤوف أن يخلق من بعض الأسلاك والقطع المعدنية شبكة اتصال بين الزنازين تمكنوا من خلالها الاستماع إلى حكايات وقصص كانت ترويها مليكة عن روسيا القيصرية و"تبتدعها من مخيلتها الخصبة...تطورت على مر الليالي مع شخصيات عديدة وأحداث مثيرة متواصلة...وتعلقنا جميعا بشفتي مليكة وموهبتها السردية".  بل قامت الأخت الصغيرة سكينة بكتابة هذه الحكايات على الورق المقوى الذي كان يرسل إليهم فيه الخبز حيث "في النهاية أصبح في حوزتنا كيس ملئ بالأوراق المسطرة بكتابات سكينة الدقيقة، ثمانية أعوام دون أن نتمكن من أن تنتقابل وجها لوجه ونحن نعيش عبر شبكتنا حكاية من روسيا القصرية".

وإلى جانب الحكى كان هناك التأمل والحلم وإطلاق الخيال :

"في السجن، كنا نمضي أياما كاملة في التأمل داخل عزلتنا. لم يكن هناك ما نتلهى به، كانت تسليتنا الوحيدة خيالنا الخاص.  كنا نستطيع أن نتوه بحريتنا في رؤوسنا، ونعد مشاريع كبيرة، لم يكن بوسع أحد أن يردعنا ولم تكن أيه عقبة تعترض أفكارنا. بطريقة ما، كنا أحراراً أكثر من الناس في الخارج".

ورغم هذه الحيل وأشكال المقاومة كانت التجربة في غاية الصعوبة على الأم وأبنائها الستة خاصة وأنها كانت تراهم يذبلون أمامها ولذلك لجأوا إلى الإضراب عن الطعام عام 1986 في محاولة للفت الأنظار إلى محنتهم  دون جدوى ثم محاولة انتحار فاشلة، إلى أن نجح أربعة من الأبناء من الفرار من السجن عن طريق حفر نفق عام 1987، وهو ما سلط الأضواء على قضيتهم أمام الرأي العام المغربي والعالمي ومهد الطريق لإطلاق سراحهم عام 1991.

تجربة فاطمة أوفقير وتجربة أبنائها الستة، حتى لو اختلفت معها في مواقفها السياسية أو المبررات التي تسوقها دفاعا عن زوجها،  هي نموذج لمقاومة محن الأقدار بكرامة وإنسانية ومحاولة الاحتفاظ  "على مشاعر الشهامة والإحساس المرهف" وعدم الانحطاط إلى مستوى حيواني أدنى.  

وكما تقول فاطمة اوفقير: " أردت أن يفكر أولادي في العيش بعزة وكرامة قبل التفكير في الحقد والكراهية، وربما هذا ما أبقانا ضمن مجتمع البشر".

Tuesday, August 14, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(7) حدائق الملك 1




"لقد جئت إلى هذه الدنيا مرفوعة الرأس وسأموت مرفوعة الرأس"



يمكن أن يكون غلاف كتاب "حدائق الملك" مخادعا للوهلة الأولى، فإلى جانب العنوان الذي يوحي بسياق مرتبط بالطبيعة والجمال واتساع الأفق، توجد صورة لأمرأة جميلة يكسو ملامحها الجذابة ابتسامة هادئة رقيقة، هي صورة الكاتبة وصاحبة السيرة فاطمة أوفقير. فمن هي وما هي قصتها مع "حدائق الملك"؟

هي زوجة الجنرال محمد اوفقير، رجل المغرب القوي والرجل الثاني بعد الملك الحسن والذي كان قد دعم والده محمد الخامس في الحصول على استقلال البلاد عام 1956 من فرنسا ثم تولى منصب وزير الداخلية في عهد الحسن الثاني بعد أن كان مدير أمن ومخاربات وساهم في قمع المعارضة وبسط يد  الدولة والملك على البلاد .

ورغم حياة الرفاهية والرغد والثراء التي عاشتها فاطمة أفقير، و هي إمرأة قوية الشخصية، محبة للحياة ومتعها، ورغم قربها من الأسرة المالكة ومن مراكز السلطة والنفوذ وصنع القرار، انقلبت حياتها رأسا على عقب عندما تورط زوجها في محاولة إنقلاب فاشلة  ضد الملك الحسن عام 1972 ، قتل في أعقابها الجنرال أوفقير.  

ولكن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد، بل أصبحت فاطمة وأولادها الستة والذي كان أصغرهم عبد اللطيف يبلغ من العمر ثلاث سنوات وأكبرهم مليكة في التاسعة عشرمن العمر نزلاء في حدائق الملك....وهو الأسم الذي يطلق على المعتقلات والسجون السياسية في المغرب.

من الصعب قراءة تجربة الاعتقال التي دامت 19 عاما من 1972 حتى 1991 والسقوط المروع من قمة المجتمع المغربي إلى  غياهب النسيان تحت الأرض في الزنزانات  السوادء المفقرة دون غذاء كاف أو رعاية طبية أو فرص لتعليم الصغار، تجربة راح ضحيتها ستة من الأطفال والأبناء لا ذنب لهم فيما اقترف الآباء، ولكنه شكل أخر من أشكال العقاب الجماعي الذي يقترفه المستبد أو صاحب السلطة أو المتعصب دينيا أو عنصريا والذي يدفع ثمنه الأبرياء من أعضاء أسرة أو أبناء قرية  أو أفراد طائفة دينية أو حتى أبناء بلد بأكمله.

ولكن أكثر ما جذبني في هذه المذكرات هو القدرة الإنسانية ، حتى بين الصغار، على البقاء والحياة والصمود أمام  أصعب ظروف الحرمان والقهر وايجاد سبل لعدم "السقوط في الانحطاط المعنوي والعقلي" كما تعبر عن ذلك فاطمة افقير.... فكيف كان ذلك؟؟


Monday, August 13, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(6) مذكرات قرية: المرأة 5



"الزوجة تعرف وزوجها يعرف أنها إن غضبت فسيشقى...
ستظل كل أسئلته في بيته بدون أجوبة"



 يرسم عصمت سيف الدولة صورة خاصة جدا عن المرأة الصعيدية حيث يضعها في مكانة رفيعة داخل أسرتها وبيتها: " فكل ما تملكه الأسرة من مال او ماشية أو حبوب أو دواجن أوجبن أو دهان أو خبز أو بيض، فهي خازنته وهي حارسته وهي المانحة منه ما تريد لمن تشاء، بل هي وحدها التي تعرف على وجه التحديد ما هو وكم هو وأين هو من البيت.  فهي لها في بيتها فضلان، فضل الإدارة وفضل التمويل، ولزوجها فضل العمل، فلا ينكر عليها أحد بعد هذا أنها ملكة البيت وما فيه...إنها لا تخدم أحدا، ولا زوجها وإنما تدير مملكتها في بيتها وتعد فيه كل الأجوبة الروحية والعاطفية والمادية على أسئلة الرجل الزوج والأولاد من بنين وبنات".

أما الحب والزواج والعاطفة فلها خصوصية في قرية الهمامية يعبر عنها  د.عصمت سيف الدولة قائلا:

"الزوجة في القرية لا ’تحب’ ولا ’تعشق’ زوجها، تلك وأمثالها أوصاف أدنى بكثير من تلك العلاقة بين الزوجين، أدنى وصف إلى حقيقتها أنها وحدة مصير...لا بل وحدة وجود. فهما لا يلتقيان منفردين إلا نادرا، وإن تحادثا فلا يهزران، ولا يتلامسان غزلا، ولا يتغزلان حديثا، ولا يعرفان عادة القبل على الشفاء، ولا يتعانقان إذا تقابلا بعد غياب، لا يفقدان في كل الظروف الوقار والتوقير والحياء، ولا تنادي المرأة زوجها باسمه ولا يناديها باسمها إلا إذا كانا منفردين، وإن تجادلا فصيغة النداء تدل على مدى الاتفاق والاختلاف والتودد، إن قالت له ,’يا خوي’ فهي متفقة، وإن نادته ’يا ولد عمي’ فهي تتودد...وإن قالت ’يا ولد الناس’ فهي غاضبة".

ولكن هذا لا يعني أن المرأة في القرية لا تعرف الحب "بالعكس إنها تعرفه عاطفة متأججة منذ أن بلغت مبلغ النساء، كل ما في الأمر إنها أحبت حتى الوله، وعشقت بكل كيانها الزوج بصفته وليس شخصا بعينه".

هناك الكثير من الحكايات والملامح والتفاصيل الأخرى تحتويها "مذكرات قرية"، ولكن لكل بداية نهاية وليس أفضل من المرأة والحب خاتمة  لهذا العرض الموجز....فقد حان الوقت لكي نرتحل إلى مكان وزمان أخر...فإلى أين؟؟


Sunday, August 12, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(5) مذكرات قرية: العاب الحياة 4


                

                              "لا أحد يكف عن اللعب، ولا أحد يشكو، 
                                  ولا أحد يبكي ولو تحطمت عظامه"



اللعب ليس فقط مدخل لأدخال البهجة والسرور والمرح على الاطفال ولكنه أيضا يمنحهم فرصة الاختلاط بغيرهم من الأطفال واكتساب المهارات الاجتماعية، وفي قرية مثل  "الهمامية" يصبح اللعب أداة هامة لإعداد الأطفال للحياة التي سيواجهونها.  ومن أهم اللعب التي يلعبها الأولاد لعبة "دارت" ولعبة "العضمة". وكل منهما تنطوى على مخاطر الموت أو الجرح الجسيم وكلها تبيح العنف بدون حدود.

فلماذا تزج القرية بأبنائها لمثل هذه الألعاب والمخاطر؟؟

يعقب على ذلك د. عصمت سيف الدولة قائلا:

" قسوة الحياة في القرية خلقت أرقى فضائلها: احتمال القسوة لتستمر الحياة. غيبة الأمل في مغالبة الحياة، خلقت فضيلة الكف عن الشكوى لمن لا أمل فيه. هكذا ما فتئت القرية تدرب أولادها وهم صغار يلهون على ما سيحتاجون إليه حين يكبرون ويعملون.  تقدم للهوهم ألعابا قاسية لتحصنهم ضد قسوة الحياة الجادة، كما يلقح الجسم بالميكروب ليتحصن ضد الاصابة بمرضه. وعلى مدى الحياة الطويلة وأجيالهم المتعاقبة يتعلم كل مجتمع ما هو في حاجة إليه. كما تعلم المجتمع منذ الغارة أن الشجاعة رأس الفضائل كما تكون بالاقتحام الايجابي وهزيمة القاهرين عنوة، تكون بهزيمة القهر ولو سلبيا بتحمل آلامه وعدم الشكوى منه ولو كانت الحياة ذاتها هي ثمن الصمود".

وعلى جانب أخر، هناك العاب تعلم المساواة مثل لعبة "السيجة" التي يلعبها أهل القرية كغيرهم من فلاحي مصر بقطع من طوب أو حجر على رقعة من تراب وهم جلوس على الأرض، ويحرص أهل القرية على تدريب أولادهم عليها منذ الصغر. ويقدم د. عصمت سيف الدولة مقارنة بديعة بين لعبة "السيجة" ولعبة "الشطرنج" لها دلالات تربوية واجتماعية  فيقول:

"فالسيجة لعبة ديمقراطية في حين أن الشطرنج لعبة ارستقراطية، ففي السيجة تتساوى كل القطع  إذ كلها أحجار أو طوب، أما في الشطرنج، فثمة الملك والوزير والفارس والطابية والفيل ثم أخيرا الجند الذين يرصونهم أمام الارستقارطيين وفرسانهم وطوابيهم وأفيالهم ليتلقوا عنهم مخاطر القتال المبكر. كذلك في الشطرنج كل القوى مسخرة لحماية الملك ولا يهزم لاعب إلا إذا مات الملك حتى لو كان فقد كل جنده أو خيله وطوابيه، أما في السيجة فكل القطع يساند بعضها بعضا وتتعرض كل قطعة للمخاطر ذاتها التي تتعرض لها القطع الأخرى، وتحل كل قطعة محل أية قطعة أخرى في إداء وظيفتها، ومن يمت يفتدي من يعيش، ثم لا ينهزم إلا من يفقد "أغلبية" قواته وحكم الأغلبية قائم على اساس المساواة بين البشر".

ولكن إذا كانت المساواة  قيمة أساسية من قيم القرية، فماذا عن المرأة ووضعها ومكاتنها في هذا المجتمع الصعيدي التقليدي المحافظ ؟  

Saturday, August 11, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...(4) مذكرات قرية: "الغارة" 3




"ذهبت بهجتهم وقلت أموالهم وظهرت عليهم الكآبة والفاقة منذ الغارة"



اللحظة الفارقة في تاريخ هذه القرية هي لحظة تمرد بعض أبنائها  وصدامهم مع "السلطة"، كان ذلك في القرن التاسع عشر، وقد نالت القرية وأهلها عقابا جماعيا قاسيا حيث أبيدت ودكت دكا وأصبحت ترابا يوم "الغارة" التي قادها الأمير شاهين باشا، وتم رفع المتمردين من أهل القرية على الخوازيق وعلى رأسهم قادة المقاتلين من أبنائها الذين دافعوا بشجاعة عنها، وتفرقت نسائهم وذرياتهم في البلاد وسلبت أملاكهم ونهبت أموالهم لتضاف إلى ثراء الناهبين من رجال السلطة والاقطاع والباشاوات، إلى أن "أدركتهم المراحم الخديوية بشرط "كفالة" استقرارهم على الخضوع، فعفا عمن بقى منهم" وسمح لهم بالعودة إلى بلدهم.

وقد ظلت ذكرى مهانة هذه "الغارة" قابعة في نفوس أهل القرية لعقود طويلة بعد حدوثها، غرزت في أعماقهم "القهر" .  ويرسم د. عصمت سيف الدولة صورة مؤلمة لعواقب هذا  الإحساس عندما يتغلب على روح الإنسان حيث أنه الذي جعل "شباب القرية يجرون كالبهائم مربوطين في ذيل حصان يمتطيه عسكري ولا يقاومون، ويرتضون أن يقفوا تأدبا إذا مر عليهم حصان الحكومة لا يمتطيه عسكري". فقد دخل القهر "في نسيج حياتهم فأصبح كل منهم أنسانا مقهورا...لا يشعر بالقهر إلا إذا نبه إليه تنبيها قويا...ولقد كانت الحكومة أقوى المنبهات إلى تناقض قيمة المساواة بين أهل القرية ومقام المقهورين فألغو من حياتهم فعليا وعقليا ونفسيا وسلوكا آية قرابة بينهم وبين الحكومة، لا قرابة عداء  ولا قرابة ولاء ولاقرابة انتماء، ولا قرابة رجاء".

وبهذا الشكل "أستقامت حياتهم على وثيق المساواة فيما بينهم وعوضوا حاجتهم الدفينة إلى العزة بأن أضافوا إلى أبطالهم الشعبيين القدامي من بني هلال، أبطالا معاصريين هم أولئك الأولاد "الجدعان" الذين يتحدون الحكومة وتطاردهم السلطة فلا تصل إليهم في مخابئهم الأسطورية، أولئك الذين تغني لهم فتيات القرية، ويرسل إليهم الرجال الأموال القليلة خفية، ويحلم كل ناشئ بالانضمام إليهم...انهم نماذج الانسان الذي يفتقده في ذاته كل انسان في القرية فينتمي إليه تعويضا عما اتنقصه القهر من انسانيته".

وقد سجل أبناء القرية قصة "الغارة" في حكايتهم وفي أغانيهم التي تدعو إلى الثأر واستعادة الكرامة، وربما تحقق جانب من هذا الثأر عندما نجح أحد أبنائها وهو "الشيخ عباس" الرجل  الأزهري المتعلم والمثقف في قيادة مقاومة ذكية استخدم فيها الأدوات القانونية والإجراءات الإدارية إلى جانب توعية وتحفيز أهل القرية مما نجح في حماية شبابها من اصطيادهم وترحيلهم لخدمة المجهود الحربي البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى‘ ثم في أسترداد أرض "الجزيرة" التي سلبت من القرية أثناء الغارة ومن ثم استعادة جانب من كرامتهم ومواردهم وثروتهم.

ولكن كيف يتم تنشئة أبناء القرية وإعدادهم لحياة تختلط فيها قيم المساواة مع قسوة وخشونة القهر، سواء قهر السلطة أو قهر الفقر؟ 

Friday, August 10, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...3 مذكرات قرية: المساواة 2


"مفيش حد أحسن من حد"


من الملامح التي جذبت انتباهي في حياة قرية الهمامية هي قيمة المساواة  والتي تعد قيمة أصيلة من قيم أبنائها كما يشير د. عصمت سيف الدولة: "فهناك مساواة تفرضها الوحدة في النسب والوحدة في الفقر والوحدة في الموطن، فقد نشأ أبناء القرية منذ قديم الزمان أن لا أحد في القرية أفضل من أحد من أسرته ولا أسرة أفضل من أي بيت، ولا بيت أفضل من بيت في عائلة، ولا عائلة أفضل من عائلة في القرية، بصرف النظر عن العدد والثروة".

وهناك قيمة أخرى وثيقة الصلة  بقيمة المساواة، هي قيمة "الستر" التي يحرص عليها أبناء القرية، فتنشئ كل عائلة منضرة مزوقة لاستقبال واكرام أضياف الفقراء من الأسرة سترا لفقرهم، كما يكلفون في أفراحهم نفقة الفرح لصاحبه سترا لعجزه عن نفقاته ويسمونها نقوطا، ويتكفلون في الجنائز والمآتم لعجز أهل المتوفي عن نفقاتها".

ولكن رغم قيمة المساواة هذه التي تعزز من قيم الرحمة والتراحم والتضامن، هناك حالة أخرى تنتاب أبناء القرية مثلما تنتاب العديد من القرى المصرية الأخرى أيضا، حالة وثيقة الصلة بتاريخ العلاقة مع "السلطة" وأصحاب الثروة والنفوذ. 

 فما هي؟

Thursday, August 9, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...2 مذكرات قرية 1


كانت أولى رحالتي مع الدكتور عصمت سيف الدولة، وهو رجل قادم من أعماق الصعيد، مناضل وطني كان ضمن كتائب الفدائيين الذين قاتلوا الإنجليز في القناة عام 1951 كما أصبح محاميا في معظم القضايا السياسية والوطنية مدافعا عن حق جميع القوى السياسية في التعبير عن نفسها، وحقها في تنظيم صفوفها وحمل رسالتها، ودخل المعتقلات في السبعينات والثمانيناب بسبب مواقفه السياسية والوطنية.  وعندما طلب محبيه ومريديه أن يكتب مذكراته وروايته ليقدمها للأجيال الجديدة، فضل أن يكتب عن قريته...قرية "الهمامية" الواقعة بمركز البداري في محافظة أسيوط.  

ولكن ماذا يمكن أن نجده في قصة قرية صغيرة فقيرة واقعة في أحضان جبال الصعيد لا تختلف كثيرا عن أي قرية أخرى في ربوع مصر؟ في الواقع هناك الكثير الذي قد يثير الاهتمام والدهشة أو يضيف إلى فهمنا لماضينا وحاضرنا، فأينما وجدت التجربة الإنسانية وجدت التفاصيل التي يمكن للعين الفاحصة أن تستشرف منها الدروس والحكم كما فعل بجدارة د. عصمت سيف الدولة.  بل يرى البعض أن "مذكرات قرية" الصادرة عام 1995 و الجزء الثاني "مشايخ جبل البداري" الصادرة عام 1996 قد تكون من أهم ما كتب عن الصعيد وأنه عمل غير مسبوق يقارب أو يتجاوز كتابات وأبحاث الأنثروبولوجيين حيث ترسم لنا لوحات معبرة عن العادات والأمثال والحكايات والفنون والألعاب.

يسرد لنا د. عصمت سيف الدولة رحلة هذه القرية منذ تاريخها العتيق مرورا بـ"فرح قداح" مؤسس القرية وجد أبنائها ، ثم العلاقة القلقة مع السلطة الخديوية وسلطة الاحتلال الإنجليزي وحتى ثورة 1919، ويستعرض خلالها ملامح وخصائص القرية من لهجة وعبارات يتميز بها أهلها، وطقوس الزواج والعزاء ومواسم الزراعة والحصاد ومحاصيلها وأدواتها، وصراع أهلها مع الطبيعة والفيضان والجفاف ورمال الجبل،  ثم بيوتها وساكنيها وأكلهم وشربهم وعلاقاتهم الاجتماعية والعائلية...إلى أخره من تفاصيل ترسم لنا صورة غنية وبديعة عن واحدة من قرى مصر.

ولكن هناك ملامح وتفاصيل جذبت انتباهي بشكل خاص لما لها من دلالات وما تحمله من قيم وما تكشفه من خصائص ميزت حياتنا كمصريين عموما وما تركته من آثار في  نفوس وحياة الأجيال المتعاقبة...

فما هي وكيف ذلك؟


Wednesday, August 8, 2012

اطلالة على حيوات أخرى...1


لا أعرف لماذا منذ اندلاع الثورة في مصر وفي غيرها من البلدان العربية لم أستطع قراءة الأدب رغم عشقي له وشغفي به، وعلى مدار العام والنصف الماضيين لم أنجح في القراءة الجادة لأي عمل أدبي حتى تلك الأعمال التي تناولت الثورة، بل أجدني بعد ثلاث أو أربع صفحات القي بالرواية جانبا بعد أن ينتابني شعور بالحيرة والضجر. 

ولكن أكثر ما جذبني وشدني في الآونة الأخيرة هو قراءة المذكرات والسير الذاتية. وربما يعود ذلك إلى الرغبة الشديدة في البحث عن إجابات لأسئلة كثيرة فجرتها الأحداث المتلاحقة، أو ربما هي محاولة في الاطلالة على التجارب الإنسانية المتنوعة  بكل ما تحتويه من حيوات وقصص لأناس وبشر عاشوا الحياة بجمالها وقبحها، بانتصاراتها واخفاقاتها، وقدموا لنا تجاربهم وحياتهم عبرة نتعلم منها ونماذج نقتضي بها ودروس نداوي بها حيرتنا بل وتجارب نستشرف من خلالها ملامح المستقبل.

هكذا وجدتني اترك القاهرة بصخبها وانفلاتها وصراعاتها السياسية واتجه نحو شاطئ البحر ومعي حقيبة مليئة بالكتب حيث بدأت رحلة صيفية بديعة مع حيوات وعوالم أخرى، أبحرت بي في الزمان والمكان، واخذتني إلى شواطئ دافئة حيث هدوء واستقرار النفس، ثم إلى بحور أوسع وأعمق زادت من تساؤلاتي وحيرتي...

فمن أين بدأت...وإلى أين أبحرت؟...لذلك حديث أخر...